لا يمكن للعملية التعليمية/التعلّمية أن تأخذ مجراها الصحيح دون أن يكون المعلّم على إلمام تامّ بأساليب تفكير الأطفال وكيفية معرفتهم للعالمَ
المحيط بهم: كيف يفكّرون؟كيف يتعلّمون؟ ماذا يتعلّمون؟
كيف يستغلون ما تعلّموه؟… لذا، عليه أن يكون على دراية تامّة بعمليات النموّ المعرفي التي تشكّل نقطة تقاطع بين علم نفس النموّ وعلم النفس التربوي. ولن يتأتّى له ذلك إلا بعودته إلى بعض نظريات ومبادئ علم النفس ذات العلاقة المباشرة بهذا الجانب
تُبنى المعرفة اعتماداً على عمليات رئيسية ثلاثة مترابطة فيما بينها: (الإدراك – التذكّر–التفكير ).فاحتفاظ المتعلّم بالمعلومات التي أدركها قبْلياً واختزنها في ذاكرته سابقاً لاسترجاعها عند الحاجة تُعرَف بـ "التذكّر"، أمّا ما يحصل عليه آنياً عن طريق تفاعله مع البيئة المحيطة به (موضوع التعلّم) ، فهو"الإدراك"،وأمّا قدرته على المزْج بين العمليتيْن"التذكّر والادراك " أي الجمْع بين المعارف المكتسبة ماضياً والتي بقي يحتفظ بها فيذاكرته، وبين الخبرات الجديدة التي أدركها واستساغها حاضراً، ومحاولاته إعادة تصنيف وتنظيم هذه الخبرات المكتسبة (المتغيّرات) في أنماط جديدة، والبحث عن علاقات تربط بينها ليكوّن بها تنظيمات وتشكيلات معرفيةً جديدة يستهدف من خلالها حلّ الإشكالية التي تواجهه، أو تحقيق النتائج المرجوّة مستقبلا تُعرَف بـ "التفكير". وبهذا،فإنّ النموّ العقلي هو بالدرجة الأولى إعادة تركيبٍ بنائي وليس –فقط – تراكماً معرفياً محضاً. ومن هذا المنطلق، فإنّ التفكير يتطلّب شيئيْن أساسييْن:
1- وجود مشكلة تعترض الفرد وتتحدّاه،
2- إقامة استراتيجية تحدّد كيف ينجح الفرد أو يفشلفي إنتاج الاستجابة المناسبة .
نحاول أن نتعرّض إلى بعض النظريات التي تناولت هذا الجانب، انتقيْنا منها أربعةً نظراً لشموليتها من جهة،ولصلتها الوطيدة بعملية التعليم والتعلّم: نظرية "بياجي" ونظرية " برونر" ونظرية"أوزوبيل" ونظرية "جانييه".
1 - جان بياجي والنمـــوّ المعــرفي Jean Piaget
- لمـــاذا بيـــاجــــي؟
لأنّ بياجي، إضافة إلى كونه عالماً وفيلسوفاً، فإنّه مارس مهنة التدريس في معهد "جان جاك روسو" قبل أن يتولّى إدارته سنة 1940، ثمّ مديراً للمعهد العالي للتربية في "جنيف"، ومديراً للمكتب العالمي للتربية (اليونيسكو).نشر العديد من أبحاثه حول سيكولوجية التفكير عند الطفل، فكان تأثيره بالغ الأهمّية على طرائق التدريس، حيث هاجم الطرائق التقليدية في التدريس المبنية على الإلقاء والتلقين وحشو أدمغة الأطفال، أين كان التلميذ مجرّد جهاز استقبال ذي موقف سلبي،يستمع إلى المعلومات التي تُعرَض عليه جاهزة دون أن يراها أو يمارسها أو يشارك في بنائها... فشنّ عليها حرباً وهاجمها في أكثر من مناسبة ، إذْ يقـــــــــول :
" إنّ الطفل لا يستطيع استيعاب المفاهيم بالاستماع السلبي، بل يستوعبها إذا بناها بنفسه عن طريق العمل والاكتشاف... وما يصدر عن ردود فعله الخارجية وحركاته التي تعتبَر لوناً من ألوان الفوضى في أغلب الأحيان،ما هي في الحقيقة إلاّ تمرينات لعمليات عقلية في طور النّموّ، تُكسِبه المعلومات وتعمل على ترسيخها وتثبيت بنيات إدراكية تُضفي عليها واقعية وشرعية وتنظيماً مفيداً يطوِّر من خلالها طرائقه في معالجة المعطيات الجديدة وتقنيات استيعابها... "
لم يُنكِر "بياجي" أهمّية التفاعل اللفظي (التعليم الشفهي) في نقل المعرفة وتبليغها،ولكنّها تظلّ ناقصة إذا لم يُسهِم التلميذ عملياً في بنائها، ويبقى دور المعلّم مَصُوناً لكنّه ينحصر في التوجيه والتنشيط والترشيد والتنظيم...
النمـــوّ العقــلي كما يـــراه " بياجـــــي " :
يتناول "بياجي" النموّ المعرفي من منظوريْن رئيسييْن يعتبرهما أساسييْن لفهم ومعرفة تطوّر النموّ المعرفي، وهما:
1-البنيــــــة العقلية: وهي وضعية التفكير الأولية التي توجد لدى الفرد في مرحلة من مراحل النموّ، وهي أبنية قابلة للتغيّر تبعاً لتغيّر الفرد نتيجة تفاعله مع البيئة المحيطة به.
2– الوظائف العقلية:وهي كلّ العمليات (الذهنية – الحسحركية…) التي يلجأ إليها الفرد عند تعامله وتفاعله مع المثيرات البيئية الخارجية (موضوع التعلّم)، وبهذا، فإنه يرى أنّ البنيات العقلية تتمثّل في تعلّم الفرد خبرات جديدة (التعلّم الكمّي)، في حين إنّ الوظيفة تتعدّى ذلك إلى تفاعله معها وكيفية تعامله مع محيطه المباشر(التعلّم النوعي أو الكيفي) سعياً وراء تأقلمه مع الوسط (أو لوضعية المعرفية) الذي يعيش فيه. ويرى أنّ وظيفتين أساسيتيْن من هذه الوظائف ثابثتان أيْ أنّهما غير قابلتيْن للتغيّر لكوْنهما موْروثتيْن، وهما :
1- التنظيمOrganisation :وهو نزعة الفرد إلى ترتيب وتنظيم العمليات العقلية في أنساق كلّية متماسكة ومتكاملة .
2- التكيّفAdaptation : وهونزعة الفرد إلى التلاؤم والتوافق معالبيئة التي يعيش فيها، ويحدث هذا التكيّف من خلال عمليتيْن متتامّتيْن تكمل الواحدة منهما الأخرى، وهما:
- الاستيعاب أو التمثّل : Assimilation : وهو عبارة عن عملية تعديل المعطيات الجديدة بما ينسجم ويتّفق مع ما لدى الفرد من أبنية معرفية سابقة… فهي، إذنْ، عملية دمج وقوْلبة البنية المعرفية القائمة (القديمة المكتسبة مع الجديدة)لكي تتواءم وتتطابق لتحقيق وضعية جديدة يستوعبها ويمتلكها... إذْ إنّ فهم وتفسير كلّ موضوع جديد يحتاج إلى مجموعة من الآليات الذّهنية التنظيمية يقوم بها المتعلّم من : تصنيف وترتيب، تقسيم وجمع، نفي واثبات … من رصيده المعرفي المحتفَظ به في ذاكرته عاملاً على مزجها وتكييفها مع المعطيات الجديدة التي تشغل باله فتتمخَّض عنها في نهاية المطاف ما يسمّيه "بياجي" بالأشكال المعرفية (les formesintellectuelles )وفي هذا السياق، إنّ ضغط المحيط الخارجي يؤدّي دائماً لا إلى الخضوع السلبي، بل إلى مجرّد التغيير في الفعل الذي يهدف إلى التأثير فيه. هكذا، يمكننا تحديدالتكيّف على أنّه توازن بين تكييف السلوك وتطابُقه، ممّا يعود بنا إلى القول أنّه توازُن المبادلات بين الفرد والموضوع
- المواءمة-Accommodation : وتعني إحداث تغيير أو تعديل أو تكييف على ما لدى الفرد من معارف وأبنية معرفية لتتلاءم مع المعلومات والخبرات الجديدة التي هو بصدد تعلّمها.فبتقاطُع هاتيْن العمليتيْن (التمثُّل والمواءمة) يحدث ذلك التفاعُل المنشود بيْن الذّات (المتعلِّم) والمحيط الخارجي (موضوع التعلّم) إلى أن يصل إلى حالة التوازن المطلوب : تشكّل البنية المعرفية.
ومع نموّ الطفل، تزداد قدرته على تنظيمه للخبرات البيئية المكتسبة وقدرته على التكيّف معها في سلسلة متتابعة من مراحل التفكير والسلوك، على أن تمثّل كل مرحلة امتداداً للمرحلة السابقة ونقطة انطلاق للمرحلة اللاحقة.
وبهذا، فإنّ كلّ مرحلة تتكوّن من ثلاث فترات متكاملة فيما بينها: فترة الاسترجاع والدّعم للخبرات المكتسبة سابقاً، فترة تَشكُّل الخبرة الجديدة، وفترة التمثُّل التي تعتمد على التنظيم المستمرّ للعمليات المعرفية الرّاهنة وبداية تَشَكُّل المرحلة الموالية.لذا، يرى"بياجي" أنّ بناء المعرفة فعلٌ عملياتي إذْ يُبْنى على ثلاث عمليات متكاملة :
عملية وظيفية بحيْث يجتهد الفرد في البحث عن المعلومات لاشباع حاجاته (الإجابة عن سؤال، حلّ مشكلة،اعراب جملة، تحليل موضوع أو تحرير مقال…)، وهي، في نفس الآن، عملية توازنية بحيث يسعى إلى تجاوُز تلك الحيْرة وذلك القلق الذي أحدثه الموضوع الجديد فيستعين بكلّ الآليات التي امتلكها من تنظيم وتكييف وتمثّل ومواءمة لتحقيق غايته ويبقى الفكر في حالة عدم اتّزان أو توازن غير مستقرّ طِوال مدّة تكوُّنه، إذْ يغيّر كلّ اكتساب جديد من المفاهيم السابقة، كما يُخشَى أن يؤدِّي إلى التعارُض معها، وبالمقابل، تتجسّد الأطر التصنيفية والتسلسلية والمكانية والزمانية عند المستوى العملاتي دون الاصطدام بعناصر جديدة وهي، أخيراً، عملية جدلية تقتضي الاندماج كلِّية مع الموضوع (الاهتمام،الانصات، الانتباه…)، السعي إلى التأثير عليه (جمع المعطيات، تفكيكها،تحويلها، ترتيبها، تجريدها، البحث عن العلاقات…)، وأخيراً دمج هذه المعلومات الجديدة في قالب ذهني معيّن يسمح ببنائها وتثبيث لبناتها المعرفية.
ويرى "بياجي" أنّ من أهمّ الملامح المميّزة للغة والتفكير عند الطفل في سنّ ما قبل التّمدرُس هو التمركز حول الذّات، أي أنّه لا يتقبّل ولا
يعترف بوجهة نظر الآخرين. ولن يتمكّّن من تقبّل آراء الغيْر إلاّ بعد بلوغه السابعة أو الثامنة من عمره، وهي مرحلة التعليم الابتدائي، إذْ تنمو لديه قدرة ما يسميه "بياجي" باللغة الاجتماعية أو الإيماءات الاجتماعية. إنّ نوع الممارسات والاجراءات التي يتفاعل معها الطفل في هذه المرحلة تقتصر على ما هو موجود أمامه فعلاً، يعاينه مباشرة، يلمسه بيديْه أو يراه بعيْنيْه، يتحسّسه… ولهذا، سُمّيت هذه المرحلة بمرحلة الاستدلال العياني. ومع نهاية المرحلة الابتدائية، يزداد نضجه وقدرته على التنظيم والتكيّف فيصبح قادراً على التفكير المنطقي الناتج عن الممارسات العملية الملموسة، فتبدأ حالة التمركز حول الذات في التقلّص تدريجيًا ليحلّ محلّها التفكير الرّمزي والمجرّد (المرحلة الرابعة والأخيرة) القائم على العمليات الذهنية التي تسودها العلاقة المباشرة بين الظاهرة ووجهة نظر الفرد،إذْ يصبح قادرًا على التعامل مع المشكلات واقتراح الفرضيات، مناقشتها، تقبّل آراء الغيْر، وضع استراتيجيات لحلها، استخلاص النتائج،إنتاج الأفكار والآراء بعيداً عن الوقائع الحسية، وهذا ما سمّاه بياجي بمرحلة التنظير (l’âge dela théorisation) وفي هذه المرحلة بالذات تتساوى عمليتا التمثّل والمواءمة ويصل الفرد إلى درجة عالية من التوازن، فيحدُث ذلك التفاعل المنشود بين الذّات (المتعلّم) وموضوع التعلّم الذي يؤدّي إلى تحقيق الهدف أو إشباع الحاجة،لأنّ الحاجة الملحّة إلى المعرفة، إلى الإجابة عن سؤال، إلى حلّ مشكلة طارئة… هي التي تثير اهتمام المتعلّم،تحرّك فضوله، وتهزّ شعوره… فتجعله في وضعية اضطراب مستمرّ، وتوتّر دائم… يبحث عن المعلومات، ينقّب، يسترجع... ولن يهدأ له بال إلاّ بعد أن يجد الحلّ للإشكالية المطروحة،فيرتاح ويعود إلى حالة من التوازن النفسي. لكنّ هذا التوازن ما هو إلاّ توازن مؤقّت، إذْ بمجرّد ظهور إشكالية جديدة سيهتزّ كيانُه ويعود المتعلّم إلى حالة الاضطراب والقلق من جديد إلى أن يصل إلى الحلّ المرغوب فيه.
" إذا قارنّا بين التوازن الجزئي للبنى الإدراكية والحركية وتوازن التكتّلات، يبدو بالضرورة " توازناً متحرّكاً، كون العمليات أعمالاً فإنّ توازن التفكير عملاتي لا يعني الرّكود مطلَقاً، بل نظام تبادلات تتأرجح، وتحوّلات تحلّ دوماً محلّ أخرى. إنّه توازن بين نغمات متعدّدة وليس توازن نظام أحجام جامدة،ثمّ إنّه لا يعني أبداً الاستقرار الخاطيء الذي ينتج عنه أحياناً من جرّاء السّنّ وبطء المجهود الفكري "
ومن هذا المنطلق، يتّضح لنا أنّ التعلّم عملية دينامية سريعة التطوّر، والمعارف التي يتمّ امتلاكها واختزانها ليست ثابتة (ستاتيكية) بل هي بنيات معرفية تبقى دائماً في حالة استنفار قصوى، تتفاعل باستمرار مع كلّ ما هو جديد، وبذلك تضمن ديمومتها واستمراريتها ، نموّها وتجدّدها باضطراد .
وهكذا، فإنّ كلّ الأفعال والأنشطة، فكرية كانت أم حركية أم شعورية، إنّما هي ناتجة عن "حاجة" ملحّة تستدعي حلاًّ أو إجابة…فالحاجة
إلى المعرفة (التعلّم) ما هي في الواقع إلاّ مظهر من مظاهر"اللاّتوازن" يقتضي نظامَ ضبْطٍ معيّن و انتهاج سلوك ملائم…
وبهذا، يمكننا القول بأنّ بناء المعرفة هي عملية ثلاثية الأبعاد :
1- بُعْدٌ وظيفي بحيث يسعى المتعلّم إلى تفسير بعض الظواهر والإشكالات أو الوضعيات والبحث عن الحلّ المناسب لها تشكيلاً لهذه المعرفة ...
2- 2-بُعْدٌ توازُني بحيث لا بدّ من ضبط العلاقات التي ينبغي أنتجمع بين الاستيعاب والمواءمة حتّى لا يطغى أيّهما على الآخر، إذْ إنّ هيمنَة الاستيعاب على المواءمة تؤدّي إلىتشويه الوقائع وانحراف التكيّف معها، أمّا هيمنة التلاؤم على الاستيعاب فتؤدّي إلى ضغط وتفوّق الموضوع (الموضوع يفوق مستوى المتعلّم) على المتعلّم فيُصبِح هذا الأخير عاجزاً حائراً لا يستطيع التجاوب والتفاعُل مع ما يحدث أمامه من أحداث ووقائع...
3- 3- بُعْدٌ جدلي يستدعي التعامل والتفاعل مع الموضوع من حيث : تفكيكُه، تحويلُ بعض أجزائه أو ترتيبها، إعادة العلاقة بينها،تركيبها... البحث عن المعطيات والمعلومات التي تسمح بفهم الوضعية الإشكالية،القيام بمجموعة من العمليات الذهنية لتشكيل المعرفة...
وخلاصة القول ، يمكن إجمال هذه العمليات العقلية البياجية في ما يلي :
1-المواءمة، وتجمع ما بين : التنظيم والتمثّل .
2- التـوازن ، ويجمع ما بين : التنظيم، التمثّل والمواءمة.
3- التكيّــف ، ويجمع ما بين : التنظيم، التمثّل، المواءمة والتوازن
على ماذا ترتكز المقاربة البياجية ؟
ترتكز المقاربة البياجية على الأسس الآتية :
1- الفعل – l'action : يؤكّد "بياجي" على :
- ضرورة إشراك التلميذ عملياً في بناء المعرفة مهما كان نوع النشاط التعليمي: جمع المعلومات، ترتيب الأشياء، إعداد المحتويات، حوصلة لمعطيات، استقصاء الآراء حول مشكلة ما...
-ضرورة تشجيعه على الملاحظة والتأمّل ومشاهدة الوقائع والتجارب...
- إتاحة الفرصة للأعمال والمعالجة اليدوية ...
لهذا، لا ينبغي أن يقتصر دور التلميذ على استقبال المعلومات الجاهزة مهما كانت الظروف والوضعيات .
2- الحرص على إرساء مبدإ التكاملية في فهم البنيات المعرفية :
على المعلّم أن يحرص على ترتيب النشاطات التعليمية في مخطط دراسي يُراعي فيه ترتيب الحصص وتراتُبها وتنظيمها في شبكة تكاملية تحقّق تدريجياً تكامل البنية العقلية حتى تسهل عملية بناء المعرفة من البسيط إلى المعقّد، بحيثُ تُؤسَّس كل بنية عقلية جديدة على ما بناه
المتعلّم سابقاً واستساغَه. ولا يمكن، في أيّ حال من الأحوال، الاستخفاف من قيمة المعلومات الجديدة مهما بدتْ للمعلّم واضحة وسهلة فيعمل على تخطّّيها أو تلقينها... إذْ لا بُدّ وأن تُترَك العناية للتلميذ لمعالجتها بنفسه، لأنّ المعلومات التي (قد)تبدو سهلة بسيطة بالنسبة للمعلّم قد لاتكون كذلك بالنسبة للتلميذ، وكذا بالنسبة للتلاميذ أنفسهم إذا راعيْنا الفروق الفردية... فيبقى التلميذ في جميع الوضعيات التعلّمية هو المركز الذي تمرُّ عبره جميع المعلومات والمعارف ، لتنتَظم في شبكة من العلاقات المركّبة فتدعّم البناء المعرفي السابق.فلا معارف دون إقراره بفهمها واكتسابها.
3- تسريع انتقال أثر التعلّم:
تعتمد البنية الإدراكية على مجموعة من العمليات العقلية تترابط وتتناسق من أجل استيعاب المعطيات الجديدة وتنظيمها. فكلّ موقف تعليمي جديد يفرض على التلميذ إقامة استراتيجية معيّنة ( بحث، جمع المعطيات، إقامة تجربة، مطالعة مراجع، تحقيق...)انطلاقاً من معارفه السابقة وتمثّلاته الذهنية. لكنّ هذه الاستراتيجية قد تقتضي وقتاً طويل اًوحرّية كاملة في تصرّفات التلميذ وحركاته، وقد يضطرّ إلى طرح مجموعة من الأسئلة على المعلّم ذاته أو على زملائه، فيتبادلون الآراء لاستجلاء الغموض من أجل الوصول إلى النتيجة المعرفية المقصودة.
4- انتقاء الإشكاليات المناسبة لتحفيزالمتعلّم على التعلّم :
كلّما قُدِّمت إشكالية بسيطة دون مستوى التلميذ واهتماماته، قُوبِلت بالاستهتار واللامبالاة. لِذا، وجب على المعلّم البحثُ عن ما يثير فضول المتعلّم ويتحدّاه. ولن يتأتّى ذلك إلاّ إذا كان على دراية تامّة بمكتسبات التلميذ ومدى تحكّمه فيها، وقدرته على تعميمها واستخدامها في مواقف جديدة، لأنّ الإشكالية التي تَبُثّ فيه الحيْرة والقلق تُخلخِل توازنه وتحفّزه على رفع التحدّّي، فيواجه المشكلة وكلُّه عزْمٌ وحزمٌ وثباتٌ. ولعلّ في هذا أكبر تحفيز لعملية التعلّم،تعزيز داخلي يشعُر نحوه التلميذ بنشْوة الفوز فيحقّق توازنه .
5- إثارة الدّافعية :
الدّافعية هي حالة من التوتُّر النفسي تعمل على تنشيط سلوك الفرد وتوجيهه نحو هدف معيّن. هذا التوتّر يؤدّي بصاحبه إلى اختلالٍ توازني، وهذا الاختلال يدفع بالمرْء إلى بذل الجهد والقيام بنشاطات مقصودة، فلن يستقرّ له بالٌ ولن يهدأ حتّى يُشبِع حاجاته فيعود إلى حالة توازن من جديد.
تُعتبر الدّافعية وظيفة أساسية في عملية التعلّم، إذْ تعمل على تحرير الانفعالية الكامنة في كلّ فرد، وتجعله يستجيب للموقف التعلّمي عن رغبة. إنها توجّه سلوكه وتحفّزه على السعي الدّؤوب لإشباع حاجاته ومنثمَّ تحقيق أهدافه.
لذا، كلّما استطاع المعلّم أن يربط بين الأهداف التدريسية وحاجات المتعلّمين وما يحيط بهم، فإنّ ذلك يُسْهِم–لا محالة – مساهمة فعّالة في استثارة دوافعهم ممّا يكون ذا أثر إيجابيّ حميد على إحداث السلوك المنشود.
ومن هذا المنظور، فإنّ الدّافعية شرط أساسي يتوقّف عليها تحقيق الهدف في أيّ مجال من مجالات التعلّم: ( تحصيل المعارف، تكوين الاتجاهات والقيم، حلّ المشكلات، طرق التفكير...) ، لأنها تعمل على تنشيط سلوك المتعلّم تنشيطاً واعياً نحو إشباع حاجاتٍ خلقت لديْه قلَقاً وحالةً من اللاّتوازن... وفي هذا الصّدد يقول "بياجي": " لا سلوك بدون دوافع "
ومن خلال المراحل التي حدّدها بياجي لنموّ الطفل المعرفي، يمكننا استخلاص بعض المباديءالتربوية المستوحاة من نظريته يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار، نوجزها في مايلي :
- ضرورة ربط مناهج التعليم بطبيعة الطفل إذا أريد له أن يحقّق أهدافه بنجاعة .
- ضرورة توفير وسائل الإيضاح المادّية المحسوسة في غرف الدّرس بالنسبة لأطفال المرحلتين الأولى والثانية (مرحلة ما قبل التمدرس مرحلة التعليمالابتدائي) لتيسير عملية الإدراك وتنظيم تعلّمهم .
- ضرورة توفير موادّ مشوّقة ومتنوّعة يستطيعالطفل أن يتفاعل معها وأن يستخدمها، مع اجتناب كلّ نوع من أنواع الإلقاء والتلقين، بل يوصي بتشجيع الطفل على أنيبني المعرفة بتناوله الأشياء واستخدامها.
- ضرورة إتاحة فرص التفاعل بين الطفل (الذّات) وموضوع الدراسة (البيئة الخارجية) لما لذلك من تأثير إيجابي على نموّهم المعرفي.
- ضرورة إتاحة فرص التفاعل بينه وبين أترابه لما يوفّره ذلك من دور تعليمي/ تعلّمي جليٍّ في مختلف المجالات المعرفية، الحس حركية،الوجدانية والاجتماعية … وهذا التفاعل الجماعي ينمّي لدى الطفل مواهب مختلفة كالتفكير والتخطيط، والتعبير عن الرّأي والإبداع والابتكار، واتخاذ القرارات ...
- ضرورة توفير بيئة نشطة وفاعلة للطفل لتسهيلعملية تعلّمه وممارسة أساليب الاكتشاف الذّاتي للخبرات التعليمية المستهدَفَة.
- ضرورة الإصغاء إلى كل ما يقوله الأطفال وليس– فقط– إلىما نريد سماعه منهم.
-ضرورة عدم مواجهة الطفل بمشكلات تقتضي أعمالاً تفوق مستواه العقلي ومرحلة نموّه المعرفي...
-ضرورة الانطلاق من الأشياء المألوفة لديه والتي سبق له التعرّف عليه، تمثيلُها واستيعابُها للوصول به إلى المعارف الجديدة فتتيسّر لديه عملية الاكتساب والمواءمة.
-ضرورة توفير وضعيات نشطة فعّالة (تجربة،تفاعل مع الأشياء، زيارات...)تيسّرعملية التعلّم الذاتي من خلال ممارسته أساليب الاكتشاف الذاتي... وهنا،يلحّ بياجي على ضرورة إتاحة الفرصة للطفل للقيام بدورفاعل في تنظيم مساعيه...
-ضرورة مسايرة طاقة المتعلّمين من حيْث تقديم المعلومات، نوعها وكثافتها، تسلسلها وتتابعها… حتى نمكّنهم من لعب دورهم كاملا في بناء الفعل التعليمي التعلّمي وخلق ذلك التفاعل الأفقي(متعلّم------ متعلّم) الذي يسمح لهم بالتعلّم الطبيعي الذي يتماشى واهتماماتهم واستعداداتهم ،على أن ينحصر دور المعلّم –هنا– في التوجيه والتنشيط والتنظيم والإرشاد.
- ضرورة السّهر على أن تتواءم الخبرات الجديدة مع تلك المكتسبة قبليًا بشكل منطقي وذلك من أجل استثارة اهتمامه وتطوير قدراته على الفهم والاستيعاب .
- ضرورة الاستفادة من أخطائهمفي بناء مواقف تعلّمية جديدة.
- ضرورة وضع اختبارات التحصيلمناسبة من حيث تصميمها ومحتواها مع مستوى الأطفال العقلي المرحلي حتّى يتمّالتقويم بشكل واقعي متناغم وشامل ...
المحيط بهم: كيف يفكّرون؟كيف يتعلّمون؟ ماذا يتعلّمون؟
كيف يستغلون ما تعلّموه؟… لذا، عليه أن يكون على دراية تامّة بعمليات النموّ المعرفي التي تشكّل نقطة تقاطع بين علم نفس النموّ وعلم النفس التربوي. ولن يتأتّى له ذلك إلا بعودته إلى بعض نظريات ومبادئ علم النفس ذات العلاقة المباشرة بهذا الجانب
تُبنى المعرفة اعتماداً على عمليات رئيسية ثلاثة مترابطة فيما بينها: (الإدراك – التذكّر–التفكير ).فاحتفاظ المتعلّم بالمعلومات التي أدركها قبْلياً واختزنها في ذاكرته سابقاً لاسترجاعها عند الحاجة تُعرَف بـ "التذكّر"، أمّا ما يحصل عليه آنياً عن طريق تفاعله مع البيئة المحيطة به (موضوع التعلّم) ، فهو"الإدراك"،وأمّا قدرته على المزْج بين العمليتيْن"التذكّر والادراك " أي الجمْع بين المعارف المكتسبة ماضياً والتي بقي يحتفظ بها فيذاكرته، وبين الخبرات الجديدة التي أدركها واستساغها حاضراً، ومحاولاته إعادة تصنيف وتنظيم هذه الخبرات المكتسبة (المتغيّرات) في أنماط جديدة، والبحث عن علاقات تربط بينها ليكوّن بها تنظيمات وتشكيلات معرفيةً جديدة يستهدف من خلالها حلّ الإشكالية التي تواجهه، أو تحقيق النتائج المرجوّة مستقبلا تُعرَف بـ "التفكير". وبهذا،فإنّ النموّ العقلي هو بالدرجة الأولى إعادة تركيبٍ بنائي وليس –فقط – تراكماً معرفياً محضاً. ومن هذا المنطلق، فإنّ التفكير يتطلّب شيئيْن أساسييْن:
1- وجود مشكلة تعترض الفرد وتتحدّاه،
2- إقامة استراتيجية تحدّد كيف ينجح الفرد أو يفشلفي إنتاج الاستجابة المناسبة .
نحاول أن نتعرّض إلى بعض النظريات التي تناولت هذا الجانب، انتقيْنا منها أربعةً نظراً لشموليتها من جهة،ولصلتها الوطيدة بعملية التعليم والتعلّم: نظرية "بياجي" ونظرية " برونر" ونظرية"أوزوبيل" ونظرية "جانييه".
1 - جان بياجي والنمـــوّ المعــرفي Jean Piaget
- لمـــاذا بيـــاجــــي؟
لأنّ بياجي، إضافة إلى كونه عالماً وفيلسوفاً، فإنّه مارس مهنة التدريس في معهد "جان جاك روسو" قبل أن يتولّى إدارته سنة 1940، ثمّ مديراً للمعهد العالي للتربية في "جنيف"، ومديراً للمكتب العالمي للتربية (اليونيسكو).نشر العديد من أبحاثه حول سيكولوجية التفكير عند الطفل، فكان تأثيره بالغ الأهمّية على طرائق التدريس، حيث هاجم الطرائق التقليدية في التدريس المبنية على الإلقاء والتلقين وحشو أدمغة الأطفال، أين كان التلميذ مجرّد جهاز استقبال ذي موقف سلبي،يستمع إلى المعلومات التي تُعرَض عليه جاهزة دون أن يراها أو يمارسها أو يشارك في بنائها... فشنّ عليها حرباً وهاجمها في أكثر من مناسبة ، إذْ يقـــــــــول :
" إنّ الطفل لا يستطيع استيعاب المفاهيم بالاستماع السلبي، بل يستوعبها إذا بناها بنفسه عن طريق العمل والاكتشاف... وما يصدر عن ردود فعله الخارجية وحركاته التي تعتبَر لوناً من ألوان الفوضى في أغلب الأحيان،ما هي في الحقيقة إلاّ تمرينات لعمليات عقلية في طور النّموّ، تُكسِبه المعلومات وتعمل على ترسيخها وتثبيت بنيات إدراكية تُضفي عليها واقعية وشرعية وتنظيماً مفيداً يطوِّر من خلالها طرائقه في معالجة المعطيات الجديدة وتقنيات استيعابها... "
لم يُنكِر "بياجي" أهمّية التفاعل اللفظي (التعليم الشفهي) في نقل المعرفة وتبليغها،ولكنّها تظلّ ناقصة إذا لم يُسهِم التلميذ عملياً في بنائها، ويبقى دور المعلّم مَصُوناً لكنّه ينحصر في التوجيه والتنشيط والترشيد والتنظيم...
النمـــوّ العقــلي كما يـــراه " بياجـــــي " :
يتناول "بياجي" النموّ المعرفي من منظوريْن رئيسييْن يعتبرهما أساسييْن لفهم ومعرفة تطوّر النموّ المعرفي، وهما:
1-البنيــــــة العقلية: وهي وضعية التفكير الأولية التي توجد لدى الفرد في مرحلة من مراحل النموّ، وهي أبنية قابلة للتغيّر تبعاً لتغيّر الفرد نتيجة تفاعله مع البيئة المحيطة به.
2– الوظائف العقلية:وهي كلّ العمليات (الذهنية – الحسحركية…) التي يلجأ إليها الفرد عند تعامله وتفاعله مع المثيرات البيئية الخارجية (موضوع التعلّم)، وبهذا، فإنه يرى أنّ البنيات العقلية تتمثّل في تعلّم الفرد خبرات جديدة (التعلّم الكمّي)، في حين إنّ الوظيفة تتعدّى ذلك إلى تفاعله معها وكيفية تعامله مع محيطه المباشر(التعلّم النوعي أو الكيفي) سعياً وراء تأقلمه مع الوسط (أو لوضعية المعرفية) الذي يعيش فيه. ويرى أنّ وظيفتين أساسيتيْن من هذه الوظائف ثابثتان أيْ أنّهما غير قابلتيْن للتغيّر لكوْنهما موْروثتيْن، وهما :
1- التنظيمOrganisation :وهو نزعة الفرد إلى ترتيب وتنظيم العمليات العقلية في أنساق كلّية متماسكة ومتكاملة .
2- التكيّفAdaptation : وهونزعة الفرد إلى التلاؤم والتوافق معالبيئة التي يعيش فيها، ويحدث هذا التكيّف من خلال عمليتيْن متتامّتيْن تكمل الواحدة منهما الأخرى، وهما:
- الاستيعاب أو التمثّل : Assimilation : وهو عبارة عن عملية تعديل المعطيات الجديدة بما ينسجم ويتّفق مع ما لدى الفرد من أبنية معرفية سابقة… فهي، إذنْ، عملية دمج وقوْلبة البنية المعرفية القائمة (القديمة المكتسبة مع الجديدة)لكي تتواءم وتتطابق لتحقيق وضعية جديدة يستوعبها ويمتلكها... إذْ إنّ فهم وتفسير كلّ موضوع جديد يحتاج إلى مجموعة من الآليات الذّهنية التنظيمية يقوم بها المتعلّم من : تصنيف وترتيب، تقسيم وجمع، نفي واثبات … من رصيده المعرفي المحتفَظ به في ذاكرته عاملاً على مزجها وتكييفها مع المعطيات الجديدة التي تشغل باله فتتمخَّض عنها في نهاية المطاف ما يسمّيه "بياجي" بالأشكال المعرفية (les formesintellectuelles )وفي هذا السياق، إنّ ضغط المحيط الخارجي يؤدّي دائماً لا إلى الخضوع السلبي، بل إلى مجرّد التغيير في الفعل الذي يهدف إلى التأثير فيه. هكذا، يمكننا تحديدالتكيّف على أنّه توازن بين تكييف السلوك وتطابُقه، ممّا يعود بنا إلى القول أنّه توازُن المبادلات بين الفرد والموضوع
- المواءمة-Accommodation : وتعني إحداث تغيير أو تعديل أو تكييف على ما لدى الفرد من معارف وأبنية معرفية لتتلاءم مع المعلومات والخبرات الجديدة التي هو بصدد تعلّمها.فبتقاطُع هاتيْن العمليتيْن (التمثُّل والمواءمة) يحدث ذلك التفاعُل المنشود بيْن الذّات (المتعلِّم) والمحيط الخارجي (موضوع التعلّم) إلى أن يصل إلى حالة التوازن المطلوب : تشكّل البنية المعرفية.
ومع نموّ الطفل، تزداد قدرته على تنظيمه للخبرات البيئية المكتسبة وقدرته على التكيّف معها في سلسلة متتابعة من مراحل التفكير والسلوك، على أن تمثّل كل مرحلة امتداداً للمرحلة السابقة ونقطة انطلاق للمرحلة اللاحقة.
وبهذا، فإنّ كلّ مرحلة تتكوّن من ثلاث فترات متكاملة فيما بينها: فترة الاسترجاع والدّعم للخبرات المكتسبة سابقاً، فترة تَشكُّل الخبرة الجديدة، وفترة التمثُّل التي تعتمد على التنظيم المستمرّ للعمليات المعرفية الرّاهنة وبداية تَشَكُّل المرحلة الموالية.لذا، يرى"بياجي" أنّ بناء المعرفة فعلٌ عملياتي إذْ يُبْنى على ثلاث عمليات متكاملة :
عملية وظيفية بحيْث يجتهد الفرد في البحث عن المعلومات لاشباع حاجاته (الإجابة عن سؤال، حلّ مشكلة،اعراب جملة، تحليل موضوع أو تحرير مقال…)، وهي، في نفس الآن، عملية توازنية بحيث يسعى إلى تجاوُز تلك الحيْرة وذلك القلق الذي أحدثه الموضوع الجديد فيستعين بكلّ الآليات التي امتلكها من تنظيم وتكييف وتمثّل ومواءمة لتحقيق غايته ويبقى الفكر في حالة عدم اتّزان أو توازن غير مستقرّ طِوال مدّة تكوُّنه، إذْ يغيّر كلّ اكتساب جديد من المفاهيم السابقة، كما يُخشَى أن يؤدِّي إلى التعارُض معها، وبالمقابل، تتجسّد الأطر التصنيفية والتسلسلية والمكانية والزمانية عند المستوى العملاتي دون الاصطدام بعناصر جديدة وهي، أخيراً، عملية جدلية تقتضي الاندماج كلِّية مع الموضوع (الاهتمام،الانصات، الانتباه…)، السعي إلى التأثير عليه (جمع المعطيات، تفكيكها،تحويلها، ترتيبها، تجريدها، البحث عن العلاقات…)، وأخيراً دمج هذه المعلومات الجديدة في قالب ذهني معيّن يسمح ببنائها وتثبيث لبناتها المعرفية.
ويرى "بياجي" أنّ من أهمّ الملامح المميّزة للغة والتفكير عند الطفل في سنّ ما قبل التّمدرُس هو التمركز حول الذّات، أي أنّه لا يتقبّل ولا
يعترف بوجهة نظر الآخرين. ولن يتمكّّن من تقبّل آراء الغيْر إلاّ بعد بلوغه السابعة أو الثامنة من عمره، وهي مرحلة التعليم الابتدائي، إذْ تنمو لديه قدرة ما يسميه "بياجي" باللغة الاجتماعية أو الإيماءات الاجتماعية. إنّ نوع الممارسات والاجراءات التي يتفاعل معها الطفل في هذه المرحلة تقتصر على ما هو موجود أمامه فعلاً، يعاينه مباشرة، يلمسه بيديْه أو يراه بعيْنيْه، يتحسّسه… ولهذا، سُمّيت هذه المرحلة بمرحلة الاستدلال العياني. ومع نهاية المرحلة الابتدائية، يزداد نضجه وقدرته على التنظيم والتكيّف فيصبح قادراً على التفكير المنطقي الناتج عن الممارسات العملية الملموسة، فتبدأ حالة التمركز حول الذات في التقلّص تدريجيًا ليحلّ محلّها التفكير الرّمزي والمجرّد (المرحلة الرابعة والأخيرة) القائم على العمليات الذهنية التي تسودها العلاقة المباشرة بين الظاهرة ووجهة نظر الفرد،إذْ يصبح قادرًا على التعامل مع المشكلات واقتراح الفرضيات، مناقشتها، تقبّل آراء الغيْر، وضع استراتيجيات لحلها، استخلاص النتائج،إنتاج الأفكار والآراء بعيداً عن الوقائع الحسية، وهذا ما سمّاه بياجي بمرحلة التنظير (l’âge dela théorisation) وفي هذه المرحلة بالذات تتساوى عمليتا التمثّل والمواءمة ويصل الفرد إلى درجة عالية من التوازن، فيحدُث ذلك التفاعل المنشود بين الذّات (المتعلّم) وموضوع التعلّم الذي يؤدّي إلى تحقيق الهدف أو إشباع الحاجة،لأنّ الحاجة الملحّة إلى المعرفة، إلى الإجابة عن سؤال، إلى حلّ مشكلة طارئة… هي التي تثير اهتمام المتعلّم،تحرّك فضوله، وتهزّ شعوره… فتجعله في وضعية اضطراب مستمرّ، وتوتّر دائم… يبحث عن المعلومات، ينقّب، يسترجع... ولن يهدأ له بال إلاّ بعد أن يجد الحلّ للإشكالية المطروحة،فيرتاح ويعود إلى حالة من التوازن النفسي. لكنّ هذا التوازن ما هو إلاّ توازن مؤقّت، إذْ بمجرّد ظهور إشكالية جديدة سيهتزّ كيانُه ويعود المتعلّم إلى حالة الاضطراب والقلق من جديد إلى أن يصل إلى الحلّ المرغوب فيه.
" إذا قارنّا بين التوازن الجزئي للبنى الإدراكية والحركية وتوازن التكتّلات، يبدو بالضرورة " توازناً متحرّكاً، كون العمليات أعمالاً فإنّ توازن التفكير عملاتي لا يعني الرّكود مطلَقاً، بل نظام تبادلات تتأرجح، وتحوّلات تحلّ دوماً محلّ أخرى. إنّه توازن بين نغمات متعدّدة وليس توازن نظام أحجام جامدة،ثمّ إنّه لا يعني أبداً الاستقرار الخاطيء الذي ينتج عنه أحياناً من جرّاء السّنّ وبطء المجهود الفكري "
ومن هذا المنطلق، يتّضح لنا أنّ التعلّم عملية دينامية سريعة التطوّر، والمعارف التي يتمّ امتلاكها واختزانها ليست ثابتة (ستاتيكية) بل هي بنيات معرفية تبقى دائماً في حالة استنفار قصوى، تتفاعل باستمرار مع كلّ ما هو جديد، وبذلك تضمن ديمومتها واستمراريتها ، نموّها وتجدّدها باضطراد .
وهكذا، فإنّ كلّ الأفعال والأنشطة، فكرية كانت أم حركية أم شعورية، إنّما هي ناتجة عن "حاجة" ملحّة تستدعي حلاًّ أو إجابة…فالحاجة
إلى المعرفة (التعلّم) ما هي في الواقع إلاّ مظهر من مظاهر"اللاّتوازن" يقتضي نظامَ ضبْطٍ معيّن و انتهاج سلوك ملائم…
وبهذا، يمكننا القول بأنّ بناء المعرفة هي عملية ثلاثية الأبعاد :
1- بُعْدٌ وظيفي بحيث يسعى المتعلّم إلى تفسير بعض الظواهر والإشكالات أو الوضعيات والبحث عن الحلّ المناسب لها تشكيلاً لهذه المعرفة ...
2- 2-بُعْدٌ توازُني بحيث لا بدّ من ضبط العلاقات التي ينبغي أنتجمع بين الاستيعاب والمواءمة حتّى لا يطغى أيّهما على الآخر، إذْ إنّ هيمنَة الاستيعاب على المواءمة تؤدّي إلىتشويه الوقائع وانحراف التكيّف معها، أمّا هيمنة التلاؤم على الاستيعاب فتؤدّي إلى ضغط وتفوّق الموضوع (الموضوع يفوق مستوى المتعلّم) على المتعلّم فيُصبِح هذا الأخير عاجزاً حائراً لا يستطيع التجاوب والتفاعُل مع ما يحدث أمامه من أحداث ووقائع...
3- 3- بُعْدٌ جدلي يستدعي التعامل والتفاعل مع الموضوع من حيث : تفكيكُه، تحويلُ بعض أجزائه أو ترتيبها، إعادة العلاقة بينها،تركيبها... البحث عن المعطيات والمعلومات التي تسمح بفهم الوضعية الإشكالية،القيام بمجموعة من العمليات الذهنية لتشكيل المعرفة...
وخلاصة القول ، يمكن إجمال هذه العمليات العقلية البياجية في ما يلي :
1-المواءمة، وتجمع ما بين : التنظيم والتمثّل .
2- التـوازن ، ويجمع ما بين : التنظيم، التمثّل والمواءمة.
3- التكيّــف ، ويجمع ما بين : التنظيم، التمثّل، المواءمة والتوازن
على ماذا ترتكز المقاربة البياجية ؟
ترتكز المقاربة البياجية على الأسس الآتية :
1- الفعل – l'action : يؤكّد "بياجي" على :
- ضرورة إشراك التلميذ عملياً في بناء المعرفة مهما كان نوع النشاط التعليمي: جمع المعلومات، ترتيب الأشياء، إعداد المحتويات، حوصلة لمعطيات، استقصاء الآراء حول مشكلة ما...
-ضرورة تشجيعه على الملاحظة والتأمّل ومشاهدة الوقائع والتجارب...
- إتاحة الفرصة للأعمال والمعالجة اليدوية ...
لهذا، لا ينبغي أن يقتصر دور التلميذ على استقبال المعلومات الجاهزة مهما كانت الظروف والوضعيات .
2- الحرص على إرساء مبدإ التكاملية في فهم البنيات المعرفية :
على المعلّم أن يحرص على ترتيب النشاطات التعليمية في مخطط دراسي يُراعي فيه ترتيب الحصص وتراتُبها وتنظيمها في شبكة تكاملية تحقّق تدريجياً تكامل البنية العقلية حتى تسهل عملية بناء المعرفة من البسيط إلى المعقّد، بحيثُ تُؤسَّس كل بنية عقلية جديدة على ما بناه
المتعلّم سابقاً واستساغَه. ولا يمكن، في أيّ حال من الأحوال، الاستخفاف من قيمة المعلومات الجديدة مهما بدتْ للمعلّم واضحة وسهلة فيعمل على تخطّّيها أو تلقينها... إذْ لا بُدّ وأن تُترَك العناية للتلميذ لمعالجتها بنفسه، لأنّ المعلومات التي (قد)تبدو سهلة بسيطة بالنسبة للمعلّم قد لاتكون كذلك بالنسبة للتلميذ، وكذا بالنسبة للتلاميذ أنفسهم إذا راعيْنا الفروق الفردية... فيبقى التلميذ في جميع الوضعيات التعلّمية هو المركز الذي تمرُّ عبره جميع المعلومات والمعارف ، لتنتَظم في شبكة من العلاقات المركّبة فتدعّم البناء المعرفي السابق.فلا معارف دون إقراره بفهمها واكتسابها.
3- تسريع انتقال أثر التعلّم:
تعتمد البنية الإدراكية على مجموعة من العمليات العقلية تترابط وتتناسق من أجل استيعاب المعطيات الجديدة وتنظيمها. فكلّ موقف تعليمي جديد يفرض على التلميذ إقامة استراتيجية معيّنة ( بحث، جمع المعطيات، إقامة تجربة، مطالعة مراجع، تحقيق...)انطلاقاً من معارفه السابقة وتمثّلاته الذهنية. لكنّ هذه الاستراتيجية قد تقتضي وقتاً طويل اًوحرّية كاملة في تصرّفات التلميذ وحركاته، وقد يضطرّ إلى طرح مجموعة من الأسئلة على المعلّم ذاته أو على زملائه، فيتبادلون الآراء لاستجلاء الغموض من أجل الوصول إلى النتيجة المعرفية المقصودة.
4- انتقاء الإشكاليات المناسبة لتحفيزالمتعلّم على التعلّم :
كلّما قُدِّمت إشكالية بسيطة دون مستوى التلميذ واهتماماته، قُوبِلت بالاستهتار واللامبالاة. لِذا، وجب على المعلّم البحثُ عن ما يثير فضول المتعلّم ويتحدّاه. ولن يتأتّى ذلك إلاّ إذا كان على دراية تامّة بمكتسبات التلميذ ومدى تحكّمه فيها، وقدرته على تعميمها واستخدامها في مواقف جديدة، لأنّ الإشكالية التي تَبُثّ فيه الحيْرة والقلق تُخلخِل توازنه وتحفّزه على رفع التحدّّي، فيواجه المشكلة وكلُّه عزْمٌ وحزمٌ وثباتٌ. ولعلّ في هذا أكبر تحفيز لعملية التعلّم،تعزيز داخلي يشعُر نحوه التلميذ بنشْوة الفوز فيحقّق توازنه .
5- إثارة الدّافعية :
الدّافعية هي حالة من التوتُّر النفسي تعمل على تنشيط سلوك الفرد وتوجيهه نحو هدف معيّن. هذا التوتّر يؤدّي بصاحبه إلى اختلالٍ توازني، وهذا الاختلال يدفع بالمرْء إلى بذل الجهد والقيام بنشاطات مقصودة، فلن يستقرّ له بالٌ ولن يهدأ حتّى يُشبِع حاجاته فيعود إلى حالة توازن من جديد.
تُعتبر الدّافعية وظيفة أساسية في عملية التعلّم، إذْ تعمل على تحرير الانفعالية الكامنة في كلّ فرد، وتجعله يستجيب للموقف التعلّمي عن رغبة. إنها توجّه سلوكه وتحفّزه على السعي الدّؤوب لإشباع حاجاته ومنثمَّ تحقيق أهدافه.
لذا، كلّما استطاع المعلّم أن يربط بين الأهداف التدريسية وحاجات المتعلّمين وما يحيط بهم، فإنّ ذلك يُسْهِم–لا محالة – مساهمة فعّالة في استثارة دوافعهم ممّا يكون ذا أثر إيجابيّ حميد على إحداث السلوك المنشود.
ومن هذا المنظور، فإنّ الدّافعية شرط أساسي يتوقّف عليها تحقيق الهدف في أيّ مجال من مجالات التعلّم: ( تحصيل المعارف، تكوين الاتجاهات والقيم، حلّ المشكلات، طرق التفكير...) ، لأنها تعمل على تنشيط سلوك المتعلّم تنشيطاً واعياً نحو إشباع حاجاتٍ خلقت لديْه قلَقاً وحالةً من اللاّتوازن... وفي هذا الصّدد يقول "بياجي": " لا سلوك بدون دوافع "
ومن خلال المراحل التي حدّدها بياجي لنموّ الطفل المعرفي، يمكننا استخلاص بعض المباديءالتربوية المستوحاة من نظريته يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار، نوجزها في مايلي :
- ضرورة ربط مناهج التعليم بطبيعة الطفل إذا أريد له أن يحقّق أهدافه بنجاعة .
- ضرورة توفير وسائل الإيضاح المادّية المحسوسة في غرف الدّرس بالنسبة لأطفال المرحلتين الأولى والثانية (مرحلة ما قبل التمدرس مرحلة التعليمالابتدائي) لتيسير عملية الإدراك وتنظيم تعلّمهم .
- ضرورة توفير موادّ مشوّقة ومتنوّعة يستطيعالطفل أن يتفاعل معها وأن يستخدمها، مع اجتناب كلّ نوع من أنواع الإلقاء والتلقين، بل يوصي بتشجيع الطفل على أنيبني المعرفة بتناوله الأشياء واستخدامها.
- ضرورة إتاحة فرص التفاعل بين الطفل (الذّات) وموضوع الدراسة (البيئة الخارجية) لما لذلك من تأثير إيجابي على نموّهم المعرفي.
- ضرورة إتاحة فرص التفاعل بينه وبين أترابه لما يوفّره ذلك من دور تعليمي/ تعلّمي جليٍّ في مختلف المجالات المعرفية، الحس حركية،الوجدانية والاجتماعية … وهذا التفاعل الجماعي ينمّي لدى الطفل مواهب مختلفة كالتفكير والتخطيط، والتعبير عن الرّأي والإبداع والابتكار، واتخاذ القرارات ...
- ضرورة توفير بيئة نشطة وفاعلة للطفل لتسهيلعملية تعلّمه وممارسة أساليب الاكتشاف الذّاتي للخبرات التعليمية المستهدَفَة.
- ضرورة الإصغاء إلى كل ما يقوله الأطفال وليس– فقط– إلىما نريد سماعه منهم.
-ضرورة عدم مواجهة الطفل بمشكلات تقتضي أعمالاً تفوق مستواه العقلي ومرحلة نموّه المعرفي...
-ضرورة الانطلاق من الأشياء المألوفة لديه والتي سبق له التعرّف عليه، تمثيلُها واستيعابُها للوصول به إلى المعارف الجديدة فتتيسّر لديه عملية الاكتساب والمواءمة.
-ضرورة توفير وضعيات نشطة فعّالة (تجربة،تفاعل مع الأشياء، زيارات...)تيسّرعملية التعلّم الذاتي من خلال ممارسته أساليب الاكتشاف الذاتي... وهنا،يلحّ بياجي على ضرورة إتاحة الفرصة للطفل للقيام بدورفاعل في تنظيم مساعيه...
-ضرورة مسايرة طاقة المتعلّمين من حيْث تقديم المعلومات، نوعها وكثافتها، تسلسلها وتتابعها… حتى نمكّنهم من لعب دورهم كاملا في بناء الفعل التعليمي التعلّمي وخلق ذلك التفاعل الأفقي(متعلّم------ متعلّم) الذي يسمح لهم بالتعلّم الطبيعي الذي يتماشى واهتماماتهم واستعداداتهم ،على أن ينحصر دور المعلّم –هنا– في التوجيه والتنشيط والتنظيم والإرشاد.
- ضرورة السّهر على أن تتواءم الخبرات الجديدة مع تلك المكتسبة قبليًا بشكل منطقي وذلك من أجل استثارة اهتمامه وتطوير قدراته على الفهم والاستيعاب .
- ضرورة الاستفادة من أخطائهمفي بناء مواقف تعلّمية جديدة.
- ضرورة وضع اختبارات التحصيلمناسبة من حيث تصميمها ومحتواها مع مستوى الأطفال العقلي المرحلي حتّى يتمّالتقويم بشكل واقعي متناغم وشامل ...